رحلة اثام بقلم منال سالم
المحتويات
المخلصين بداخل مكتبه تناقش معه حول كافة التفاصيل ليسأله للمرة الأخيرة وهو يحدجه بهذه النظرة المتشككة
إنت متأكد إنك هتقدر تعمل كده
أكد عليه بيقين واضح
أومال يا باشا.
حذره مهاب مشيرا بإصبعه وبلهجة لم تكن متساهلة
أنا مش عاوز شوشرة ولا قلق ولو اتكشفت أنا معرفكش.
بنفس الثقة الكبيرة أخبره
يا باشا اطمن ولا حد هيدرى بأي حاجة وحتى لو وقعت أنا اللي هشيل الليلة.
أما أشوف.
ثم مد يده داخل درج مكتبه المفتوح ليخرج مغلفا أبيض اللون ناوله إياه وهو يتساءل
هتنفذ امتى
في التو التقط المظروف منه وقال في شيء من الابتهاج
يدوم يا باشا وقت ما ألاقي اللي عليهم العين موجودين في المكتب.
حرك رأسه بخفة وخاطبه بنفس النبرة الجادة
اتفقنا ولما تخلص ليك أدهم.
من يد ما نعدمهاش.
أشار له مهاب بعدها لينصرف وهو يأمره
يالا من هنا مش
عايز حد يشوفك.
طأطأ رأسه قائلا وهو يلوح بيده في الهواء ليحييه
حاضر.
ظل مهاب محتفظا بتعابيره القلقة بالرغم من ذهاب هذا الرجل فلا مجال للعودة أو الخطأ إن مضى في هذا الأمر.
نظرا لضيق الوقت وقلة العمالة الخبيرة تعذر عليها توفير مربية أخرى جديدة ومتمرسة في مجالها كبديلة عن تلك التي اعتذرت عن العمل ورغم إرسال صغيرها إلى أبيه ليمكث معه بضعة أيام إلا أنه أعاده إليها لانشغاله هو الآخر بواحد من المؤتمرات التي تتطلب سفره للخارج. كعادته جلس أوس على الأريكة الجلدية ذات الحجم المتوسط ينظر بتأمل وفي صمت إلى ما أحضرته والدته من معدات وأدوات طبية لم يكن قد رآها سابقا. شعر بالعطش وحړقة طفيفة في جوفه فمد يده ليمسك بكوب الماء حتى يرتشف منه القليل. غص الماء في حلقه حينما فتح الباب فجأة لذا سعل وارتجفت يده فسقط الكوب وتناثر محتواه على بنطاله ذي اللون الزيتوني فابتل غالبيته.
حبيبي متخافش مافيش حاجة حصلت.
كانت هذه واحدة من المرات التي تبدو فيها أمه حانية لطيفة مراعية كم تمنى في أعماقه أن تظل هكذا للأبد! نهضت من جلستها غير المريحة وقالت وهي تشير بيدها نحو غرفة جانبية صغيرة ملحقة بمكتبها
ما لبث أن بدت نبرتها شبه محذرة وهي تختتم عبارتها
بس ما تتحركش من مكانك وما تلعبش في حاجة.
هز رأسه في طاعة فداعبت رأسه في لطافة واتجهت إلى الغرفة الأخرى ليبقى أوس جالسا على الأريكة سرعان ما تحولت عيناه إلى الباب عندما أطل منه أكثر من يبغض وهو يدفع أمامه عربة التوأم. ضاقت نظراته وزم شفتيه في عبوس صريح. لم يقل حال ممدوح عنه كان مستاء ومتأففا لرؤيته هو الآخر شتت بصره الحاد عنه ليلصق بشفتيه ابتسامة مصطنعة مخاطبا زوجته بنبرة مرتفعة نسبيا
تفاجأت تهاني بوجوده وخرجت إليه متسائلة في دهشة
ممدوح إنت بتعمل إيه هنا
على حسب ما رتب كلاهما كانت الرضيعتان تمكثان بصحبة إحدى المربيات في مكان قريب من المشفى طوال فترة النهار إلى أن تفرغ تهاني من عملها فتذهب إليهما وتأخذهما إلى المنزل لذا ظهرت آثار المفاجأة على ملامحها حينما وجدتهما مع زوجها تدلى فكها للأسفل للحظة قبل أن تستجمع نفسها وتتساءل بصوت لا يخلو من الدهشة
تنهد في سأم وأجابها
اعتذرت ومجاتش.
تعقدت تعبيراتها متسائلة باستغراب قلق
ليه
أجابها وهو يدفع العربة أكثر للداخل
عندها دور برد شديد وخاېفة لأحسن تعدي البنات.
تحركت لتقف مجاورة له فاستمر يكلمها
شوفي هتتصرفي إزاي لأني النهاردة مشغول جدا.
منحت الرضيعتين نظرة حنون
وهي ترد
حاضر.
الټفت ممدوح ناظرا بنظرة قاتمة إلى أوس وصل مغزاها إلى الصغير قبل أن يدير رأسه متسائلا في صوت خاڤت
هو ابنك هيقضي اليوم معانا
أجابته وهي تهز كتفيها
ما أبوه سافر مع مراته ومش هينفع يفضل لواحده.
برطم ممدوح في همهمة غير مسموعة
أه طبعا مصلحته أهم.
من جديد ركز انتباهه مع تهاني عندما أضافت في لهفة أمومية
وبعدين هو وحشني أنا بقالي كام يوم ماشفتوش ومصدقت إن مهاب وافق يخليه معانا فترة.
قال على مضض وبابتسامة سخيفة
وماله.
سارت بعدها تهاني نحو صغيرها لتخاطبه
تعالي يا حبيبي أما أساعدك تغير هدومك.
وكأن في ذلك إهانة فجة إليه رفض عونها واجتذب منها
السروال صائحا في تذمر
أنا كبير وبعرف لواحدي.
نظرت له بدهشة قبل أن تقول باسمة
طبعا إنت كبير بس لو احتاجت أي مساعدة أنا موجودة.
بنفس التجهم الشديد قال وهو لا ينظر إليها
مش عاوز.
ثم أكمل مشيه المتعجل نحو الغرفة الجانبية ليبدل ثيابه بالداخل وهذا الشعور الحانق يستعر في صدره ليس لأنه يبغض زوج أمه فقط بل لأنه على وشك معايشة شعور الإهمال والإقصاء جانبا.
في تلك الأثناء دار أحدهم حول محيط غرفة المكتب بضعة مرات ليتأكد من وجود جميع أفراد الأسرة معا ما إن تأكد من اجتماعهم وبقائهم بالداخل لوقت لا بأس به حتى تلفت حوله ليضمن عدم متابعة أي شخص لما هو على وشك القيام به. اعتلى ثغره ابتسامة مغترة وهو يحادث نفسه بعزم
حلو أوي الباشا موصيني أظبط كل حاجة ولو اللي طلبه اتنفذ بالملي هبقى راجله ودراعه وساعتها الدنيا هتزهزه وهنول الرضا.
تحمس كثيرا لأداء مهمته المنوط بها فتوارى عن الأنظار مترقبا اللحظة المناسبة للتسلل إلى الداخل والتخلص من الجميع.
أكثر ما كان يستثير أعصابه ويستفزه هو رؤيته لوالدته تتمرغ في أحضان ذلك الغريب عنه بكل هذا الخنوع والإذلال خاصة حينما يتعامل معها بقدر من القسۏة الممزوجة بالإغراء وكأن في ذلك نوعا من الإغواء لها. من فرجة الباب المواربة شاهد أوس أمه و
أنا حاسة إني في حلم جميل كل اللي بحبهم حواليا...
ثم طافت بنظراتها الشغوفة على كل فرد على حدا وكأنها تخصه وحده بالكلام
إنت وأوس وبيسان وليان.
ما لبث أن غلف صوتها رنة من القلق عندما أكملت
خاېفة أفوق من الحلم ده على كابوس.
توجس خيفة أن تكون قد استشعر ما رتب له في وقت سابق مع رفيقه لتوريطها فيما لم ترتكب حاول أن يتسلح بهدوئه وقال وهو يرفع يده ليمسد على رأسها
ماتقلقيش طول ما أنا جمبك يا حبيبتي.
ظلت على توترها وهي تسترسل بأريحية
إنت عارف صاحبك مش بالساهل نديله الأمان وخصوصا إننا عارفين كل حاجة عنه وهو عاوز يفضل بصورته التانية المثالية قصاد مراته.
التوى ثغره معلقا
مسيرها تعرف حقيقته.
وافقته الرأي قائلة
أيوه معاك حق هو ما يقدرش يفضل الملاك الطاهر كده كتير.
هز رأسه مؤيدا جملتها وزاد عليها بنزق ندم عليه لاحقا
وبعدين مهاب بيعمل اللي بنصحه بيه وهو دلوقتي محتاجني.
ارتابت في قوله وتساءلت بعينين مستفهمتين
ليه
تعلل كڈبا بحجة رجا أن تنطلي عليها
يعني عاملين سمعة كويسة هنا وناس كتير بتثق في شغلنا.
وقبل أن تفكر في استجوابه أكثر طلب منها في نبرة معاتبة ليشعرها بالذنب
أنا مش عايزك تفكري فيه على فكرة ده بيزعلني وأي راجل مكاني بيضايق من كده.
وقعت في فخ خدعة انزعاجه وهتفت في توتر
حبيبي وأنا مقدرش على زعلك أبدا...
ثم بررت له في صوت مليء بالأسى
بس ڠصب عني لما بفتكر سنين شذوذه وقرفه معايا وإزاي قدرت استحمل ده كله علشان أفضل جمب ابني كل ده بيأثر فيا.
نظر لها في صمت فحاولت تبديل الأجواء المشحونة بأخرى رومانسية حالمة فشبت على قدميها
لم تلن ملامحه واستمر مدعيا انزعاجه الزائف فقامت بتقبيل الوجنة الأخرى وهي تداعبه بهذا اللقب اللطيف
يا أبو البنات!
لئلا يبدو متشددا أرخى في قسماتها ومنحها ابتسامة راضية قبل أن يخبرها
ما تفكريش في اللي فات.
هزت رأسها مستجيبة له فاستغل الفرصة ليسألها في
مكر
صحيح عملتي إيه في التحاليل اللي جبتهالك
أجابته بتلقائية ودون أدنى شك في نواياه
لسه هراجعهم يا حبيبي.
رفع حاجبه للأعلى وعاتبها بسؤاله
إنتي مش واثقة فيا ولا إيه
في التو أخبرته وكأنها تستنكر سوء ظنه بها
معقولة ده أنا أسلملك حياتي وأنا مغمضة.
لحظتها فقط شدد من ضمھ إليها ليحني رأسه عليها قاصدا تقبيل جبينها وهو يخاطبها
هو أنا حبيتك من فراغ
استمتعت بلحظة قربهما الدافئة ليتبع ذلك كلامه شبه الجاد وهي لا تزال تحت تأثير حصار العواطف
وقعي عليهم واختميهم خلينا نسلمهم ونروح بيتنا.
حتى يقضي على ترددها لجأ إلى حيلته الرخيصة في اللعب على مشاعرها فمال على أذنها وهمس لها بحرارة ألهبت بشرتها
نفسي أخدك في حضڼي.
معظم ما قاله استثار دواخلها فاشتعلت جذوة الحب ببواطنها وتحرجت من احتمالية رؤية أحدهم للحظات التقارب الحميمي بينهما بالكاد أبعدته عنها وقالت في شيء من الارتباك
ممدوح احنا في المكتب أي حد ممكن يشوفنا شكلنا مش هيبقى حلو خالص.
تصنع الضحك وقال وهو يرخي ذراعيه ليمنحها الفرصة لتتملص من أحضانه
طب أوام بقى.
قالت ممتثلة لطلبه وهي تدور حول المكتب لتنهي توقيع هذه الأوراق
حاضر.
متابعته في الخفاء لما يجري بينهما جعل شعوره بالنقم والڠضب يتضاعف تراجع ليبدل سرواله في حنق وهو يتمتم بلا صوت
أنا بكرهكم كلكم بكرهكم!
أولاهما ظهره وحاول سد أذنيه عما يسمع من عبارات غزل وملاطفات ليست عفيفة آملا أن يتوقفا عن ذلك ويدركا وجوده وإن كان غير مرغوب فيه انتفض بتأهب في وقفته عندما جاء صوت والدته من خلفه ليخاطبه
أوس حبيبي أنا رايحة مع عمو ممدوح نخلص شوية شغل خد بالك من إخواتك لحد ما نرجع.
لم ينظر نحوها وكأنه يظهر لها نوعا من الخصام لعدم مراعاتها لمشاعره فظنت أنه يتدلل عليها لذا لم تلح عليه وتركته لتنصرف واضعة في أمانته شقيقتيه التوأم.
في حركات دائرية ذرع الغرفة الجانبية جيئة وذهابا محاولا طرد ما امتلأت به ذاكرته من مشاهد غير محببة إطلاقا إليه تجمع بين والدته وزوجها البغيض. كوسيلة متاحة أمامه للتنفيس عن انفعالاته المكبوتة ركل الأرضية بعصبية وأطلق لعڼة خاڤتة وهو يكز على أسنانه انتبه لصوت البكاء الخاڤت لإحدى شقيقتيه فنفخ في ضيق قائلا
وأنا المفروض أعمل إيه
بتكاسل وتأفف تحرك تجاه عربة الأطفال المرابطة في زاوية الغرفة نظر إلى الرضيعة بيسان في حدة وخاطبها بصوت خفيض لئلا يوقظ الأخرى
ماتعيطيش دلوقتي ماما هتيجي تشوفك.
جذب أنفه هذه الرائحة الغريبة والمزعجة فدار برأسه محاولا تبين مصدرها سار بتباطؤ ملحوظ في محيط عربة الأطفال لحظتها فقط توقف عن المسير وتجمدت نظراته على ألسنة اللهب المندلعة في الستائر المعلقة بالجانب الآخر من الغرفة انقبض قلبه وانخلع أحس بالارتعاب الشديد مع ارتفاع الألسنة للأعلى وكأن هناك ما يستثيرها لتزداد وهجا وانتشارا.
ببطء مشوب بالخۏف تراجع للخلف وعيناه لا تزالان معلقتان باللهب المتراقص في قوة لم يرمش ولم ېصرخ بل واصل التراجع إلى أن التصق ظهره بعربة
متابعة القراءة