رحلة اثام بقلم منال سالم
المحتويات
يا دكتورة وأتمنى من قلبي إنك تقبليه.
أرخى أصابعه عن كفها فاستعادته وقالت بتلبك حرج
ولا يهمك.
تنحى للجانب وأشار بيده نحو المخرج قائلا بتهذيب أشعرها بالأهمية
اتفضلي يا دكتورة العربية منتظرانا.
تنحنحت في صوت خفيض قبل أن ترد وهي تسير بتمهل
شكرا.
طلب منها في صوت هادئ لا يخلو من الجدية الآمة عندما اقترب من الواجهة الزجاجية لاستقبال الفندق
فيا ريت تلبسي البالطو بتاعك.
تذكرت أنها وضعته على ذراعها فأومأت برأسها قائلة وهي تهم بارتدائه
حاضر.
تغلغل فيها هذا الشعور المنعش بالسعادة والارتياح فإن كانت محاولة واحدة عادية لصده استحثته على إبداء الندم الفوري فماذا إن تمنعت قليلا عليه!
استقرت في المقعد الخلفي إلى جواره في نفس السيارة التي نقلتهما بالأمس إلى مكان المؤتمر لكن هذه المرة كان منهمكا في مطالعة الكثير من الأوراق والملفات للدرجة التي جعلته يلتزم الصمت طوال الطريق مما أشعرها بشيء من الضيق لتجاهله لها فقد ظنت أنه سيحاول التودد إليها بأسلوب وديع ومهذب لكسب رضائها ومع ذلك صدمها بردة الفعل المتحفظة تلك وكأنه غريب كليا عنها كان مستغرقا في عمله للحد الذي أصابها بالتحير مما دفعها لإعادة التفكير فيما قررته قبل وقت سابق فقد لا يصلح ذلك التكتيك معه. نفخت بصوت شبه مسموع له دون أن تدري فرفع رأسه عن الأوراق وقال باسما
عادي مش مشكلة.
اقترح عليها وهو يمد يده بواحدة من الملفات
تحبي تبصي عليهم معايا
ترددت للحظة لكنها لم ترفض عرضه وقالت بابتسامة اتسعت قليلا
لو مش هيضايقك!
أصر عليها بحبور
بالعكس.. اتفضلي.
تناولت الملف منه وراحت تطالعه بعينين فضوليتين شتت نظراتها عن قراءة الأسطر الأولى عندما خاطبها
لو في حاجة مش واضحة قوليلي وأنا أشرحهالك.
ماشي.
استغلت المسافة المتبقية في ادعاء محاولتها الاستفهام عن بعض النقاط غير المفهومة ليظل الحديث ممتدا وموصولا بينهما لآخر وقت إلى أن تباطأت سرعة السيارة واحتل الفندق الفضاء المجاور لنافذتها فأشار بإصبعه تجاهه متكلما
احنا تقريبا وصلنا.
استدارت برأسها لتنظر إلى حيث أشار وقالت وهي تلملم الأوراق المتبعثرة معا
لن تنكر أن ما أمضته من لحظات معدودة وهي تشاركه الرأي وتتناقش معه باستخدام العقل والحجة والمنطق جعلها تزداد رغبة ورجاء في تعميق صلتها به فتتجاوز حدود المهنية لتصل إلى ما هو أكثر من ذلك تأرجحت مشاعرها ما بين اللهفة والتمني فتنهدت مليا وهي تستعد للنزول وجدته في انتظارها يبتسم بعناية وجدية لم يمد ذراعه لتتأبط فيه كما تخيلت لهنيهة بل أشار لها لتسير إلى جواره وكأنه عاد لوضع هذا الحاجز الوهمي الفاصل بينهما.
زرت عينيها في ضيق محسوس وقد رأت ديبرا تقف أمام مهاب بقوامها الممشوق وثوبها الأخضر الفاتن الذي يبرز أكثر مما يواري لا إراديا تحسست معطفها الأسود الذي يغطي على ما بذلته من جهد لتلفت أنظاره أصابتها موجة قوية من اليأس والإحباط وهي تراه يقف لتحيتها قائلا بشيء من الجدية
أنا بخير سيدة ديبرا!
اندهشت ديبرا مثلما استغربت تهاني لهذه المعاملة الرسمية وقررت بصوت شبه هازئ
سيدة!
أكد على مقصد كلامه المفهوم بإيماءة واضحة من رأسه وللغرابة أكثر لم يمد يده لمصافحته أو حتى تقبيلها في وجنتها كما فعل في المرة الأولى بدا جافا للغاية صلفا وغير متهاون الحميمية التي كان عليها بالأمس تلاشت كليا وكأنها لم تكن من الأساس. ارتسمت
علامات الاستياء على وجه ديبرا وراحت تعاتبه بصوت مزعوج
لما هذه الرسمية في التعامل معي ألم نكن بالأمس آ...
قاطعها رافعا يده أمام وجهها
اعتذر منك...
ثم حول ناظريه تجاه تهاني وتابع متعمدا
صديقتي المقربة منزعجة من وجودك.
في التو تلاحقت دقات قلب الأخيرة في صدمة جلية مما فاه به ظلت تحملق فيه بعينين متسعتين لا تصدق ما سمعته أفاقت من دهشتها العظيمة على نبرة ديبرا المستنكرة وهي تتساءل في استهجان بائن
أهذه صديقتك
ألصق بثغره هذه الابتسامة الساحرة والمنمقة وهو يؤكد لها دون أن يبعد نظراته الدافئة عن تهاني
نعم.
تحرجت ديبرا من وجودها غير المرغوب فيه واستأذن بالذهاب وأمارات الخيبة تظهر على تقاسيمها
اسمح لي فرصة طيبة عزيزتي.
لم تخبت الدهشة من على وجه تهاني رغم انصراف هذه المرأة وظل نظرها معلقا ب مهاب وهو يخاطبها مبديا اعتذاره وقد عاد إلى الجلوس
أنا أسف إني اضطريت أقول الكلام ده بس مكونتش هخلص بصراحة منها.
شعرت وكأنها لا تجد المناسب من الكلام لتعبر به عن رأيها فيما قال فالمفاجأة ما زالت مسيطرة عليها لكنه تابع موضحا لها
يعني أنا مش بحب النوع ده من فرض العلاقات هي مش قادرة تفهم إننا مجرد زملاء عاوزة الموضوع يتخطى ده بكتير.
تطلعت إليه بمزيد من التحير والاندهاش فواصل تعقيبه
جايز الحياة هنا مفتوحة وكل حاجة متاحة بس أنا برضوه راجل شرقي وعندي ثوابت.
استندت برأسها على راحة يدها ولم ترف بطرفيها فرأى هذه النظرة الحائرة التي تملأ عينيها لذا سألها مبتسما في لطافة
بتبصيلي كده ليه
تداركت ما كانت عليه من تحديق غريب وقالت بتلبك خفيف وهي تعتدل في جلستها
بصراحة اللي يشوفك إمبارح مايشوفكش النهاردة.
قال بشيء من الضيق
اللي حصل كان لحظة طيش وأنا ندمان عليها جدا.
كانت على وشك التعليق لكنه انتفض واقفا ليخبرها وهو يشير برأسه تجاه المنصة
أنا عندي مناقشة فوق هستأذنك.
مرة أخرى تفاجأت به يعتلي المنصة كأحد محاضري اليوم فافتر ثغرها عن ذهول تركها على حالتها تلك وهو متأكد أن نظراتها ستظل باقية عليه ولن تفارقه لمدة طويلة. شعرت تهاني بدفقة جديدة من الحماس المتقد تنعش وجدانها فرددت مع نفسها في غير تصديق وقد أشرقت ملامحها وبرقت نظراتها سرورا
للدرجادي أنا أثرت فيه
سرعان ما أسرتها طريقته المرتبة والمحكمة في فرض سيطرته على الآخرين خاصة حينما احتدم الجدال بشأن نقطة معينة كان ثابتا راسخا كالجبل لم يتوتر ولم يبد قلقا بل على العكس استطاع أن يظهر قدرته على إقناع الحاضرين بصحة رأيه فاستحوذ ببراعة على إعجابهم قبل اهتمامهم. انتشت تهاني وهي تصغي إلى مهاب وهو يدلي بدلوه في كل شيء وكأنه القائد المتزعم سرحت في تأمله وشردت مع نبرته في بعد مواز حتى بدت غير مهتمة سوى بما يفعله فقط كم دارت في رأسها الخيالات الوردية بشأن مستقبل باهر يجمعها به فقط إن تطورت علاقتهما إلى ما هو أعمق! تنبهت من دوامة تحليقها الخيالي عندما ألقى كلمته الختامية فطرحت عن رأسها هذه الأفكار الواهمة ونهضت من مقعدها لتتجه إلى المنصة حيث يقف وسط مجموعة من الأطباء يتشاور معهم في بعض الجزئيات. سمعت أحدهم يثني عليه من بين ضحكاته
نحن محظوظون بك دكتور مهاب لقد كان النقاش غنيا وممتعا للغاية.
قال وقد اتسعت بسمته
أشكرك سيدي.
مد آخر يده لمصافحته وهو يوصيه
نرجو ألا تحرمنا من هذه المحاضرات مجددا.
أخبره مؤكدا بثقة يشوبها لمحة من الغرور
لا تقلق ستجدني في كل محفل طبي.
ارتبكت
وتشعب في بشرتها حمرة خفيفة عندما تحولت كافة الأنظار إليها فجأة عندما خاطبها أحد الواقفين بنبرة مهتمة
وأنت كذلك دكتورة نتمنى رؤيتك مرة أخرى.
عندئذ تحرك مهاب ليقف مجاورا لها وليضعها كذلك في المقدمة لتتمكن من الحديث إليهم فابتسمت في خجل وردت وهي تنتقل بناظريها إليه لتحدق فيه وحده
بالتأكيد.
تكلم
مجددا ذلك الطبيب وهو يوزع نظراته بين الاثنين ومشيرا بسبابته
لنتقابل في تجمع الغد سأنتظركما.
وقتئذ رد عليه مهاب بهدوء
حسنا.
مرت عدة دقائق إلى أن خف الحشد وانشغل المعظم عنهما حينئذ انفردت تهاني به وسألته بفضول ممزوج بالحيرة
هو في إيه بكرة
أجابها وهو يشير لها بيده لتتحرك بعيدا عن الصخب
عاملين زي جولة في البلد بحيث الضيوف يشوفوا أهم معالمها!
نبرته أوحت لها بعدم اكتراثه فتفرست في وجهه مليا وهي تستطرد متسائلة لتتأكد مما تشك فيه
شكلك بيقول إنك مش حابب تخرج
جاء رده مائعا وموجزا في نفس الآن
يعني.
تعجبت من ذلك وسألته
في سبب معين
هز رأسه بالإيجاب دون أن يفوه بشيء وكأنه يقصد بهذا استثارة نزعة الحيرة بداخلها وحدث ما رتب له فازداد الفضول بداخلها ولم تمانع من الإفصاح عما تريد الوصول إليه لذا تساءلت برقة وتهذيب وقد أصبحا كلاهما خارج قاعة المؤتمر
ممكن أعرف إيه هو
اتخذت ملامحه طابعا جديا غريبا وتوقف عن السير ليوضح لها بمكر مدروس
بعيد إني مش عاوز أشوف ديبرا بس ممكن تلاقي بعض الحاجات اللي ماتعجبكيش وأنا مش حابب ده.
لحظتها أحست بالنشوة والابتهاج لتجنبه فعل ما يزعجها بأي طريقة وكأن لها تأثير ساحر يعجز إلى حد ما عن مقاومته تمسكت بهذا الاعتقاد. لاحت ابتسامة ناعمة على محياها وهي تخبره
طالما إنت مش هتروح فأنا زيك.
أومأ برأسه ليكملا سيرهما فتحركت معه وهزت كتفيه متابعة كلامها
أنا أصلا ماليش في الجو ده.
مشى إلى جوارها قائلا بصوته الهادئ
أنا عارف...
حين التفتت تنظر إليه أكمل بنبرة موحية في التو تسربت إلى النابض بين ضلوعها فراح يخفق بقوة
وحابب تفضلي كده.
تسترت وراء قناع الابتسام الخجل لتخفي هذه اللهفة الفرحة المتفشية فيها لو لم تكن قد سمعت ما قاله لظنت أنها في حلم جميل ستفيق منه بعد حين لكنها يقظة وما يردده واقع ملموس يكاد يتحقق إن استمر على هذا المنوال.
لم يكن من هواة الجلوس على المقاهي الشعبية لكن شقيقه أرسل إليه ليأتي إليه في ذاك المكان الرابض بالقرب من محل عمله. انتظره عوض في تبرم متذمر فلم يرغب في إضاعة الوقت سدى دون أن ينهي ما هو مكلف به من أعمال. هب واقفا من موضع جلوسه عندما لمح بدري قادما من مسافة قريبة اتجه ناحيته وهو منزعج بدرجة كبيرة لتأخره ناداه ملوحا بيده ومع ذلك لم يرد ظل منشغلا بالتحديق في مغلف أصفر اللون ممسك به بيده. لم يره واستمر ملهيا مع نفسه بلغه فسمعه يردد بما يشبه التهليل رغم خفوت صوته وكأن برأسه حوارا لا ينقطع
يا فرج الله أنا مش مصدق.
استوقفه بالإمساك به من ذراعه وصاح به وهو يهزه قليلا
في إيه يا بدري جايبني ومعطلني من الصبح ليه
نقل شقيقه الأصغر نظره إليه وردد في تلهف آخذ في التضاعف وابتسامة عريضة تكاد تصل لأذنيه تبرز على ملامحه
افرح ياخويا أنا الحمدلله استلمت تأشيرة السفر للعراق فحلفت لتكون أول واحد تعرف.
فاجأه بذاك الأمر الذي انتواه سابقا ومضى عليه
متابعة القراءة